ثانياُ ، الاتجاه الواقعي :
يستمد الاتجاه الواقعي في مجال الفيلم الوثائقي
مادته الفيلميمة ، من الواقع المباشر لحياة المدن والقري والأزقة والمصانع
والمستشفيات والأسواق، وغير ذلك من مناطق التجمعات البشرية ، في محاولة منه لإبراز
ما يكمن تحت السطح ، وما لا تراه العين .
برز الاتجاه الواقعي في مجال الفيلم
الوثائقي ، بظهور الفيلم الفرنسي " لا شيء غير الزمن " Rien que les heures ، سنة
1926م ، للمخرج والمنتج السينمائي البرازيلي الأصل الفرنسي الجنسية، البرتو
كافلكانتي Alberto Cavalcanty. ويعتبر هذا الفيلم ـ " لا شيء غير الزمن " ـ أول
فيلم سينمائي ، يسلِّط الضوء علي الحياة بمدينة باريس الفرنسية. وقد استطاع
كافلكانتي من خلال هذا الفيلم ، وبإسلوبه المميَّز في الإخراج ، أن يكشف إمكانيَّة
التعبير عن واقع المدينة بكلِّ متناقضاته ، من جمال وقبح ، من غني وفقر ومن أمل
وخوف. وقد حاول كافلكانتي أن يبرهن من خلال هذا الفيلم ، علي إمكانية تصوير الواقع
الذي يحيط بالإنسان داخل المدن والقري ، بشكل يتعارض مع الاتجاه الرومانسي العاطفي
الذي تزعمه فلاهرتي ، والذي يقوم علي تصوير المناطق النائية الغريبة ، وماتحتويه
هذه المناطق من مواجهة قاسية للإنسان مع الطبيعة. ولهذا يمكن القول ، أنَّه بظهور
الاتجاه الواقعي في مجال الفيلم الوثائقي ، أصبح من الممكن تسليط الضوء علي مشكلات
الإنسان وقضاياه في مجال الحياة العادية اليومية ، كما أمكن تسليط الضوء علي جنون
المدينة بتناقضاتها العديدة . لهذا يري البعض ، أنَّ الاتجاه الواقعي ، يمثِّل أنقي
درجات الواقعيَّة في مجال الفيلم الوثائقي.
وكان لفيلم " لا شيء غير الزمن " ،
أثره البالغ في إرساء دعائم التقاليد الواقعية ، ليس فقط داخل فرنسا ، بل امتد
تأثيره إلي السينما الألمانية ، حيث كان له الفضل في تحوُّلها من الاتجاه التجريدي
، وعودتها إلي أرض الواقع . وقد أخذ الاتجاه الواقعي في النمو والانتشار داخل أوربا
، في الثلاثينيات من القرن العشرين . وتمثَّل هذا النمو في ظهور عدَّة أفلام ، منها
فيلم " فيما يخص مدينة نيس " Apropos de Nice ، لجان فيجو Jean Vigo ، الذي أنتج
سنة 1930م. والذي يتحدَّث عن مجتمع نيس ، وما يشتمل عليه هذا المجتمع من تناقض واضح
بين طبقاته الغنية والفقيرة. كما برز في مجال الاتجاه الواقعي يوريس إيفنز Yoris
Evens ، والذي دارت موضوعات معظم أفلامه حول مهاجمة استغلال الإنسان ، والدفاع عن
حقوق الفئات المطحونة الكادحة . ومن أفلامه فيلم " الجسر " The Bridge ، سنة 1928م
، وفيلم " أغنية الأبطال " Song of Heroes ، سنة 1932م ، وفيلم " القوة والأرض "
Power and Land ، سنة 1940م ، إلي جانب فيلمه " أندونسيا تنادي Indonesia Calling ،
سنة 1946م والذي يتحدَّث عن إضراب عمال ميناء سيدني ، واحتجاجهم علي شحن الأسلحة
الهولندية ، التي كانت تستخدم ضد الأندونيسيين ( ) .