اليكم الجزء الثاني آملين التوفيق
وفيما يخص الرواة الممسرحين حتى الكتوم والصامت منهم تمت ممسرحته في اللحظة التي يشير فيها الى نفسه بالضمير " الانا" او مثلما استعمل الروائي الفرنسي الشهير فلوبير Flaubert ضمير الشخص الاول الجمع "نحن" حيث ذكر في روايته المشهورة مدام بوفاري Madame Bovary" " نحن في الصف عندنا دخل جارلس بوفاري " الا أن ثمّة روايات معينه تعمل على ممسرحة رواتها بصورة تامة جداً بحيث يصبح كل واحد منهم شخصية واضحة كالشخصيات التي يخبروننا عنها ومثال ذلك" ترسترام شاندي" و"البحث عن الزمن المفقود" و"دكتور فاوسستس" اذ يعد الراوي في هذه الروايات مختلفاً تماماً وبصورة جذرية عن المؤلف الضمني الذي اوجده الروائي اصلاً . اذن نلاحظ ان انواع الناس الذين تمت ممسرحتهم هم على الاغلب اكبر بكثير من الشخصيات الخيالية ونقول هنا " على الاغلب" لأن هناك شخصيات غير مؤهلة لسرد القصة. وهنا نجد ان فوكنر استطاع استعمال الابله لجزء من روايته فقط وذلك لان الاجزاء الثلاثة الاخرى موجودة فعلا وتهدف الى توضيح ما يتعلق بالابله.
ويجب ان لاننسى ان الكثير من الرواة الممسرحين يصعب تصنيفهم كرواة على الاطلاق وذلك لان كل كلام وكل حركة تصدرمنهم هي سرد ولذلك يتم سرد كل كلمة وكل حركة. وتتضمن معظم الاعمال رواة مخفييّن او متنكرين يلقى على عاتقهم مهمة أعلام الجمهور بكل مايرتأي تعلمه وغالباً ما يتكلم هذا النوع من الرواة بثقة مطلقة وعليهم مهمة ابلاغ رسالة تم تكليفهم بالقيام بها.
اما النوع الاكثر اهمية من الرواة فهم الذين يعدون غير مقبولين لدى الجمهور ويستعمل هذا النمط من الروائيين في الروايات الحديثة اذ يتم استعمال الشخص الثالث المفرد لغرض سرد الاحداث . وهنا لابد من القول ان الروائي يعمد في هذه الحالة الى استعمال هذا النمط من الرواة لترشيح سرده وتصفيته , فهم كما يطلق عليهم جيمس جويس James Joyce تسميته " العاكسين" ففي هذة الحالة مثلهم كمثل المراّة العاكسة التي قد تكون صافية وتعكس الخبرة المعقّدة او ان تكون مشوّشة وغير صافية تشبه " عدسة الكاميرا" وعلى الرغم من ذلك فهم يؤدون دورهم على افضل الوجوه . وباختصار لايخلو هذا النمط من فجوة فاذا كان استعمال الشخص الثالث للسرد مفيداً لاضفاء المزيد من الوضوح والطبيعية الا انه بالمقابل يثقل كاهل القارئ.
هنالك نمط اخر من الرواة وهو المراقب ويكون عادة محايداً لا يتدخل بأحداث الرواية وانما كل الذي يقوم به هو مراقبة الاحداث وعرضها دونما أي تعليق . ونجد هذا النمط في رواية " توم جونز" للكاتب البريطاني هنري فيلديج حيث استعمل الضمير " انا" الا ان دوره الايتعدى كونه مراقباً . وهناك ايضا الراوي المعلق الذي يحاول اثناء سرده ان يقدم تأثيراً معيناً لسرد الاحداث ومن الممكن قياس مثل هذا التأثير . فقد يكون محدوداً كما هو حال Nick في رواية " The Great Gatsby" او الدور الوسطي في الاخذ والعطاء كما هو حال Malraw في رواية ''The Heart of Darkness"" وان يكون الدور محورياً كما هو الحال في" Trastram Shandy" و "Moll Flanders ".
ومن الاهمية بمكان ان نشير الى ان كل الرواة والمراقبين سواء كان السرد باستعمال الشخص الاول المتكلم ام الثالث المفرد يقدمون القصص على شكل مشاهدة مثلما هو الحال في رواية " القتلة" " The Killers" او ان تكون على شكل ملخّص كما هو الحال في الروايات التي تخلو من المشاهدات مثل اعمال ايدسون. ومن جانبه قدم ارسطو تمييزاً جلياًً بين الطرق الدراماتيكية والسردية بحيث يجعلنا نتكلم عن التمييز الحديث بين العرض المسرحي والسرد القصصي وهذا يغطي الوظائف المطلوبة. ويقدم الرواة مهما كان نمطهم المحاورات ويدعمونها بتوجيهات المسرح ووصف الفضاء الروائي وتوصيفه. ويختلف الرواة الذين يسمحون لأنفسهم العرض المسرحي او السرد بمقدار ما يقدمونه من تعليق مسموح به لتوجيه سرد الاحداث. ويمكن لمثل هذا التعليق ان يصف أي جانب من التجربة الانسانية ومن تقديم ذلك باية طريقة كانت واذا ما تم التعامل مع هذة المسالة بطريقة واحدة فقط فأن ذلك يعني تجاهل اختلافات مهمة بين التعليق الذي لايتجاوز كونه زخرفياً والتعليق الذي يتضمن غرضاً بلاغياً محدوداً ولكنه لايعد جزءاً من البناء الدراماتيكي وانما هو جزء متمم للبناء الدراماتيكي كما هو الحال في رواية" Trastram Shandy" .
ومهما كان الدور الذي يقوم به الراوي وبغض النظر عن الصفة التي يتصف بها وباستعمال أي ضمير لسرد الاحداث يختلف الرواة بصورة ملموسة ومميزة عن درجة البعد بين الراوي والمؤلف من جهة والراوي والشخصيات الاخرى من جهة اخرى واخيراً البعد بين الراوي والقارئ. فان كل الاعمال تتضمن حواراً ضمنياً بين المؤلف والراوي والشخصيات الاخرى والقارئ ايضاً. ولكن من الممكن ان يتعارض الاطراف الاربعة فيما بينهم على الرغم من التطابق او التماثل او التقمّص او التشابه بينهم ولكن لابد من وجود بعد معين بين الاربعة. فالعناصر التي تتم مناقشتها ضمن اطار " البعد الجمالي" تدخل ضمن البعد الزمني والمكاني والاختلاف في الطبقة الاجتماعية والتقاليد الخاصة بالكلام والملابس . وتمنحنا هذة النقاط الشعور اننا نتعامل مع موضوع جمالي شريطة ان الايكون هناك ارباك مع التأثيرات المهمة للمعتقدات والسمات الشخصية للمؤلف والروائي والقارئ والشخصيات الاخرى.
ويجدر بنا ان نذكر ان الراوي يتمتع ببعد معين عن المؤلف الضمني ويمكن ان يكون ذلك البعد اخلاقياً مثل الراوي في Jonathan Wild للكاتب البريطاني هنري فيدلج او ان يكون البعد فكرياً كما هو الحال بين توني وهك فين وريشاردسون وكلاريسا وسيترن وترسترام شاندي. او ان يكون البعد زمنياً او مادياً. وفي الحقيقة , يمتاز معظم المؤلفين ببعد حتى عن الراوي العارف وذلك لان المؤلفين يدركون جيداً ما سينتج عن الاحداث لاحقاً.
ومن جهة اخرى يتمتع الراوي ببعد معين عن الشخصيات الاخرى في الرواية وقد يختلف معهم اخلاقياً وفكرياً وزمنياً ( نشير هنا الى الراوي الناضج ونفسه الفتية في رواية" الامال الكبيرة " "Great Expectations'' لشارلز ديكنز او ان يختلف اخلاقياً وعاطفياً كما هو الحال مع فاولر الراوي وبايل الامريكي في رواية ""The Quiet American" للكاتب Greene او ان يختلف اخلاقياً وعاطفياً كما هو الحال في قصتة" السوار" للكاتب الفرنسي موباسان.
ثمة بعد اخر يوجد بين الراوي والقارئ ويتجسد هذا البعد بالمعايير الخاصة بالقارئ مثل " التحول" عند كافكا حيث يتجلى البعد بصورة مادية وعاطفية, او ان يكون البعد اخلاقياً وعاطفياً كما هو الحال عند البخيل في رواية "" le Noeud de Viperes للكاتب الفرنسي Maurice ومع رفض السرد المتسم بالمعرفة الكلية مقابل القيود الموجودة لدى الراوة الممسرحين جديري الثقة والمعتمد عليهم فانه من المدهش حقا ان يكتسب المؤلفين حديثي الخبرة مع الراوة غير جديري الثقة والذين تتغير سماتهم من خلال سير الاحداث وتقدم العمل الفني الذي يسردونه, ومنذ عصر شكسبير نلاحظ انه اخبر العالم الحديث بان الاغريق تفّحصوا بعمق مسألة اهمال الشخصية التي يطرأ عليها تغيير اثناء العمل الفني ( هنا يمكننا مقارنة ماكبث والملك لير مع اوديب) .
علما ان الروايات التي تعكس تطوراً للشخصية او تدهوراً لها اصبحت مالوفة. ولم يدرك المؤلف الحديث هذه الظاهرة الى ان اكتشف استعمال الشخص الثالث المفرد العاكس بحيث انه قدّم الراوي الذي يتطور اثناء سرده للعمل . ففي رواية " الامال الكبيرة" لشارلز ديكنز نلاحظ بيب Pip وهو ناضج تم تقديمه كرجل كريم وطيب القلب لاحظ ان ذاته الشابة تبتعد عن القارئ كما كانت في السابق ثم يعود مرة اخرى . ومن الاهمية بمكان ان نذكر ان استعمال الشخص الثالث المفرد يروي في الزمن الماضي الا ان تأثيره يكون حاضراً امام اعيننا وانه ينطلق من القيم التي يتمسك بها القارئ نفسه. ومن الملاحظ ان الكتّاب في القرن العشرين اعتمدوا مثل هذة النقلات السريعة حيث يبدأ الراوي بعيداً وينتهي قريباً او ان يبدأ قريباً ويتحرك بعيداً ثم ينتهي قريباً او انه يبدأ بعيداً ثم يتحرك أبعد من ذلك وهكذا.
يتبع