حينما استوعبت السينما مذاهب التعبير
لقطة من فيلم ( مقطورة الدكتور كاليقاري )
رجا ساير المطيري
مرت السينما منذ بدايتها بثورات وتغيرات طالت الشكل والمضمون حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم وعاء يحتوي الفنون الستة السابقة ويمزجها في بوتقة واحدة. في البدايات لم يكن متوقعاً من هذا الكائن الجديد (السينما) أن يثمر عن هذه النتيجة، بل على العكس كان محل ازدراء النخب المثقفة التي استنكرت مجرد التفكير في إطلاق وصف (فن) عليه. إن السينما ليست فناً ولا يمكن أن تكون كذلك مستقبلاً، هكذا قال أحد المفكرين في مطالع عشرينات القرن الماضي.
لكن الذي حدث هو أن جهود السينمائيين العظام أثرت لغة السينما بمفردات بصرية احتلت مكانة الحرف والكلمة في النص الأدبي وساهمت في تطوير أدوات الفيلم التعبيرية ليصبح بالتالي قادراً على التعبير عن كافة الرؤى والأفكار والتصورات الفلسفية. لقد تحولت السينما إلى (فن) سابع عظيم. وخلال مسيرة التحول هذه كانت هناك الثورات الفنية وكان الارتباط بمذاهب التعبير المختلفة كالواقعية والسريالية وغيرها. وقد ساهمت هذه الثورات في رسم الصورة الزاهية لتاريخ السينما باعتبارها نقاط تحول عظيمة صنعها فنانون استثنائيون.
إن التاريخ يذكر الأخوين الفرنسيين (لوميير) والعالم الأمريكي (أديسون) باعتبارهم من اخترعوا آلة العرض السينمائي، ويذكر أيضاً أن الأفلام في ذلك الوقت كانت مجرد تصوير للواقع دون التدخل في خلفيته الزمانية أو المكانية، ويذكر أيضاً - وهذا المهم - أن أول تدخل في بنية السيناريو الأساسية والتلاعب فيها وتطويرها جاءت من طرف المخرج الأمريكي (ديفيد وارك غريفيث) ثم من المخرج الروسي (سيرجي آيزنشتاين) الذي قدّم في فيلمه (المدمرة بوتمكين-The Battleship Potemkin) تقنيات سردية جديدة غيرت من شكل السيناريو إلى الأبد. لكن الأهم من كل هذه التواريخ هي العلاقة التي ربطت بين هذا الفن الناشئ وبين قوالب ومذاهب التعبير الفنية.
هذه العلاقة تمثل ببساطة التاريخ الحقيقي للسينما. وقد بدأت أولاً من ألمانيا في تاريخ متقدم جداً، حيث تمكن السينمائيون الألمان من ترجمة (المذهب التعبيري) وتصويره ومنحه شكلاً مرئياً مجسداً في فيلم عظيم هو (مقطورة الدكتور كاليغاري-The Cabinet of Dr. Caligari) الذي ظهر في العام 1919، وفيه تم استغلال خصائص المذهب التعبيري بأمانة ودقة شديدة، فإذا كان التعريف النموذجي لهذا المذهب يقول بأنه محاولة البحث عن جذور الشعور الإنساني عبر تشويه مدروس للشكل الخارجي يسمح برؤية أدق الأفكار والمشاعر الأصيلة بشكل مجرد، وهي محاولة لا يمكن تقديمها إلا عبر شخصيات منتقاة تتميز بأنها نمطية وغير عادية وتعيش أحداثاً هي الأخرى غير عادية، فإن الفيلم يمثل ترجمة حرفية لكل ذلك. هكذا نكون أمام محاولة المزج الأولى بين السينما وبين قالب من قوالب التعبير الفني هو (المذهب التعبيري) الذي كانت له قبل ذلك صلة وثيقة بالفنون الأقدم كالرواية والمسرح والفن التشكيلي.
المحطة الثانية الهامة في تاريخ هذه العلاقة جاءت بعد نحو عشر سنوات، أي في العام 1929، مع فيلم (كلب أندلسي-An Andalusian Dog) الذي كتب نصه الرسام الشهير (سلفاتور دالي) وأخرجه أيقونة السينما السريالية المخرج الإسباني (لويس بونويل). في هذا الفيلم تمت ترجمة الأفكار التي حملها البيان الأول للسرياليين الذي أعلنه الفرنسي (أندريه بريتون) عام 1924. ويقول تعريف (السريالية) بأنها ذلك القالب الذي يحتوي صوراً مستقاة من لاوعي الإنسان ليس شرطاً أن ترتبط فيما بينها برابط منطقي وليس مطلوباً منها أن تقدم معنى واضحاً ومحدداً، فقد تكون بلا معنى. ويبرر السرياليون تجاهلهم لكل ما هو خارجي وغوصهم في داخل الإنسان واجترار هذه الصور من اللاوعي بأن الحقيقة الخالصة تكمن هناك. في فيلم (كلب أندلسي) كانت هذه الخصائص حاضرة، فهنا تصوير لهذيان وخيال وأفكار تائهة غريبة مليئة بالشطح تعبث في داخل بطل الفيلم. في أحد المشاهد هناك تمزيق (عين) بطريقة مقززة، وغيرها صورٌ أخرى تشرح أفكار الباطن التي تحكم سيطرتها على هذا الشخص.
خلافاً لهذا الغرق في الداخل الإنساني وتصوير شعوره وأفكاره المجردة، فقد جاء الإيطاليون بنوع من آخر من السينما يستمدّ من (المذهب الواقعي) خصائصه الشكلية والموضوعية. كان هذا مع بداية أربعينات القرن الماضي. ومن هنا نشأت حركة سينمائية عرفت ب (الواقعية الإيطالية الجديدة). هذه الحركة أعادت الوهج إلى الشكل الخارجي وصورت الواقع كما هو بتفاصيله الدقيقة. ويعتبر فيلم (روما مدينة مفتوحة-Rome, Open City) للمخرج (روبيرتو روسيليني) وكذلك فيلم (سارق الدراجة-The Bicycle Thief) للمخرج (فيتوري دي سيكا) من أبرز تجلياتها وهي التي قدمت تصور السينمائيين في إيطاليا للشكل النهائي الناتج عن مزج الصورة السينمائية بخصائص المذهب الواقعي. وهذا الشكل يُشترط فيه أن يصور الواقع الحقيقي بأسلوب تسجيلي ارتجالي في المواقع الفعلية بعيداً عن الاستوديوهات وباستخدام ممثلين غير محترفين يجسدون شخصيات القاع ويتلون حوارات بعيدة عن اللغة الأدبية غير الواقعية. وقد انتهت هذه الموجة في العام 1953.
إلا أن الأثر الذي تركته (الواقعية الإيطالية) كان واضحاً وأساسياً على أغلب الثورات السينمائية التي جاءت من بعد. فالموجة الفرنسية الجديدة، التي ابتدأت في العام 1959 وكانت ترجمة لمقالات (أندريه بازان) وَ(فرانسوا تروفو) في مجلة (كراسات السينما)، طالبت بكثير من الخصائص التي نادت بها أولاً (الواقعية الإيطالية) من حيث الإصرار على التصوير في المواقع الحقيقية والارتجال واستخدام الضوء الطبيعي. وكانت البداية مع ثلاثة أفلام هي (هيروشيما حبي-Hiroshima, My Love)، (لاهث-Breathless) وَ(الأربعمائة ضربة-The 004 Blows). أيضاً كان أثر (الواقعية) حاضراً في (موجة السينما الحرة) في بريطانيا، وفي تيار (سينما الرفض والاحتجاج) الذي ساد في أمريكا منتصف ونهاية الستينات، وحركة (الدوغما) التي أطلقها المخرج الدانمركي (لارس فون ترير) وكذلك في ثورة السينما الإيرانية التي جاءت في تسعينات القرن الماضي. كل هذه الموجات عزفت على وتر المذهب الواقعي.
كانت هذه أبرز المحطات التي سجلت نقاط الالتقاء بين فن (السينما) وبعض مذاهب التعبير الفنية. وهي تمثل النقاط المضيئة في التاريخ السينمائي، تلك التي جعلت من هذا الفن وعاء تمتزج داخله كل الفنون ويستوعب كافة الرؤى والأفكار. إنها اللحظات التي جعلت من السينما (فنٌ) عظيم.
مقال منشور في جريدة الرياض الخميس 5 جمادى الأولى 1427هـ - 1 يونيو 2006م - العدد 13856